مؤسسة ديوان المظالم بالمغرب

 

مؤسسة ديوان المظالم بالمغرب


مؤسسة ديوان المظالم بالمغرب

مقدمة

إذا كان ديوان المظالم هو الهيئة التي تستقبل شكايات المواطنين والبت فيها، وبما أن موضوع هذه الشكايات يبقى مقيدا بمجال العلاقة بين الادارة ومداريها، فإن المعنى الاصطلاحي لهذه المؤسسة يعني بشكل محدد التدخل بين طرفين متخاصمين للتوفيق والتصالح بينهما، وهذين المتخاصمين طرفين غير متساويين من حيث المراكز القانونية، ذلك أن أحدهما يتمتع بامتيازات السلطة العامة والثاني ليس كذلك لأنه شخص طبيعي، ومن هنا كان الطرف الأول هو (الادارة) أو رجال الإدارة: الولاة وكبار المسؤولين متمتعين بامتيازات السلطة العامة والطرف الثاني هو المواطنين المنتفعين من خدماتها.

إن أول واقعة تؤرخ حسب اطلاعنا على العديد من الوثائق التاريخية لرفع المظالم في الحضارة الاسلامية، هي تلك التي نشأت بين الزبير ابن العوام رضي الله عنه ورجل من الأنصار. وقد نظرها الرسول صلى الله عليه وسلم.[1]

وقد قيل في هذه النازلة ان الرسول صلى الله عليه وسلم نذب الزبير أولا إلى الانتصار على بعض حقه على طريق التوسط والصلح،[2] وهذا يكفي للاستدلال على أهمية رفع المظالم انذاك في حماية فلسفة الصلح التي كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يهدف إلى تأسيسها من خلال التوسط، فالتوسط من أجل إقرار الصلح كان إذن قائما منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا أساس ثاني يكفي للقول بأن ظهير إحداث ديوان المظالم استقى أساسه قبل كل شيء من الشريعة الاسلامية، وقد نص على الوساطة التي سماها التوفيقية التي تقوم على التوفيق الذي هو أحد صور الصلح. ولذلك فإن طبيعة تدخلات والي المظالم ذات صبغة الوساطة التوفيقية تهدف إلى رفع المظالم صيانة لمبدأ أساسي هو مبدأ حماية الأعمال النافعة للناس.

هذا وقد كان مبدأ الاعمال النافعة للناس أساسيا في بداية دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك عندما عاقب خالد ابن الوليد بني حذيفة عندما لم يحسنوا قولهم في الدخول إلى الاسلام، وعاقبهم بأن منح لكل واحد من رجاله أسيرا وقتل بعضهم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه أحد رجاله، وقد ذكر ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظلم إلى الله مرتين مما فعله خالد ابن الوليد.[3]

وقد صار الخلفاء الراشدين على نفس المنوال وتولى كل من أبي بكر وعمر وعثمان هذا الأمر بطرق متشابهة إلى غاية عهد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

واما عن علي رضي الله عنه: فقال المقرزي في خططه: أنه أول من تولى المظالم من الخلفاء، والمقصود بها أنه من فصل في مظالم الناس وأصدر أحكاما فيها، وهو من قال لن تقدس أمة لا يؤخذ فيها للضعيف حقه من القوي. الديني جعلها أساس الفلسفة التي قامت عليها من زجر الدين ورهبة السلطة التي جسدتها قوة الخلفاء، ثم الفلسفة التي قامت عليها صيانة الأعمال النافعة للناس، وهم الخلفاء الذي جاء بعدهم عمر بن عبد العزيز الذي صنفه البعض خامسهم.وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله خرج ذات يوم إلى الصلاة فصادفه رجل ورد من اليمن متظلما فقال من ظلمك؟ فقال غصبني الوليد بن عبد الملك ضيعة فلان فأمر برد ضيعته.

هكذا إذن تكون ولاية المظالم في هذا العصر الذهبي هي ولاية انصاف ذوي الحق وردع الولاة من ذوي السلطان وإلا لماذا اختص بها الخلفاء في ظل وجود مهمة القاضي؟

وأما من صفات النظر في المظالم يقول "هو قود المتظالمين إلى التناصب بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع وكثير الورع.

وقد ذكر ابن خلدون اهمية هذه الوضعية بقوله هي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطة ونصف القضاء، وتحتاج إلى علو يد، وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ماء جزاء قضاة أو غيرهم عن امضائه، ويكون نظر في البنيات والتقرير، وتأخير الحكم إلى جلاء الحق، وحمل الخصمين على الصلح وامتحن الشهود، وذلك أوسع من نظر القاضي.[4]

وعموما لقد استمرت ولاية المظالم في عهد بني امية حيث باشرها عبد الملك بن مروان إلى جانب قاضيه أبي ادريس وفي عهد الدولة العباسية جلس لها المهدي والهادي والرشيد والمأمون والمعتصم والمهدي وغيرهم، وفي مصر مارسها كافور الاخشيدي وجوهر الصقلي.

وما يهمنا ليس هو السرد التاريخي وإنما الفلسفة من وراء التجسيد الواقعي لهذه الولاية. وبما أن المملكة المغربية قد احيت هذا التراث العظيم، بإحداثها مؤسسة ديوان المظالم، فما هي معالم ومقومات هذه الولاية في المغرب عبر التاريخ؟

هذا عن ولاية ديوان المظالم في الدولة الاسلامية، فماذا عن ولاية المظالم عبر تاريخ الدولة المغربية؟ وما هي المراحل التي قطعتها؟

المبحث الاول: تاريخ ولاية المظالم في المغرب القديم

منذ عهدالأدارسة، قام نظام الحكم بالمغرب على البيعة التي تجسد أحد قواعد الاستخلاف، التي تستنبط أسسها من نظام الحكم في الاسلام، ونحن نبحث في الوثائق التاريخية لم نجد ما يشفي استطلاعنا حول مهمة ولاية المظالم في عهد الدولة الادريسية خصوصا وأن هذه المرحلة من مراحل تاريخ المغرب لم يكن فيها ما يشبه الاستقرار السياسي.

ولكي لا نسقط في متاهات السرد التاريخي سوف نعالج ولاية المظالم في المغرب من خلال بعض الوثائق رغم عدم وضوح معالم ولاية المظالم في الدولة المرابطية، حيث كان القضاء بشكل عام يشمل الفصل في كل الخصومات، وهو الفصل الذي قد يؤدي إلى التظلم أمام  الأمير، تظلم يمكن تصنيفه كاستئناف للحكم الصادر عن القاضي الذي لم ينصف المتقاضي حسب زعم هذا الأخير، وذلك من خلال مضمون رسالة الأمير المرابطي علي بن يوسف، التي وجهها إلى قاضيه بمالقا يحثه فيها على نشر العدل واستثباب الأمن، تثير عبارة النواب أكثر من سؤال، فهل يقصد بها نواب الحكم؟ ام نواب الأمير؟ وإذا اعتبرنا أن كل منطقة كان بها حاكم وقاضي ونواب، فإن الأمر يتعلق بنواب الحاكم الذين يشرفون على تدبير شؤون الرعية، وهم المقصودون بعبارة (عمالها) الواردة بالرسالة خصوصا أن الشروط التي فرضها هذا الأمير هي الثقة والديانة والصيانة والأمانة وهي الشروط المطلوبة في يومنا هذا في كل موظف ينشد قيم المصلحة العامة. ولذلك فإن ولاية المظالم في هذا العصر لم تكن واضحة بما يفسر فصلها عن القضاء بل كانت متضمنة في مهمة القاضي، إذ يبقى عزل النائب من اختصاص الحاكم بعد طلب القاضي، أي ان القاضي هو الذي يبت في مظالم الناس ضد هذا النائب، وبعد التأكد من سوء معاملته للناس فإنه يطلب من الحاكم عزله، وإذا تواني الحاكم، فما على القاضي إلا أن يخبر الأمير بعد بته في التظلم الموجه ضد هذا النائب، وبعد تواني الحاكم في عزله، يباشر عليه الأمير سلطته في العزل. وقد بدأت عملية الفصل بين مهمة القضاء وولاية المظالم تتضح معالمها مد بداية الدولة الموحدية وبالضبط في عهد احمد المنصور الموحدي، الذي رفض أن يحكم بين اثنان تماما امامه في نصف درهم، لأن ذلك كان من اختصاص القضاء الذي يوجد في كل بقاع المغرب، أما هو فكان يسأل كل وفد يفد إليه عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم، وهذا السؤال كان في حد ذاته نظر في مظالم هذا الوفد، لأن السؤال عن العمال هو سؤال عن سلوكهم وتسييرهم لشؤون رعيته، وسؤاله عن قضاتهم هو سؤال عن العدل فيهم، وسؤاله عن ولاتهم هو سؤال عن إدارتهم وإدارة شؤونهم، وهو وجه من أوجه اهتمامه بمظالم الناس، إلا ان هذه المظالم لم تكن مباشرة بل تفهم من تلك التساؤلات.

ولاية المظالم عند الموحدين

أما المنصور الموحدي فإنه على اتساع مملكته كان يجلس لفصل القضايا كلها، جليلها وحقيرها بنفسه، ففي "المعجب في اخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي (وكان – أي المنصور – يقعد للناس عامة لا يحجب عنه من صغير أو كبير حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم فقضى بينهما وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة ان يضربهما ضربا خفيفا تأديبا لهما، وقال لهما: أما كان في البلد حكام قد نصبوا لمثل هذا؟ فكان هذا أيضا مما حمله على القعود في أيام مخصوصة لا ينفذ فيها غيره)، ولما ولى أبا القاسم بن بقي قضاء الجماعة بمراكش بالإضافة إلى خطة المظالم والكتابة العليا، اشترط عليه أن يكون قعوده بحيث يسمع حكمه في جميع القضايا، فكان يقعد في موضع بينه وبين أمير المؤمنين ستر من الواح.

وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم فإذا اثنوا خيرا قال: اعلموا أنكم مسؤولون عن هذه الشهادة يوم القيامة فلا يقولن امرء إلا حقا، وربما تلا في بعض المجالس (يا أيها  الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).

وكان عبد المؤمن شديدا في هذا الباب يباشر أمر المظالم بنفسه، ولقد بلغه أن رجلا من التجار ببجاية فقد لفة من بضاعته فاستدعى التاجر، قال التاجر المذكور ولما وصلت إلى باب القصر وجدت جماعة كبيرة، والمصامدة دائرة عليهم بالرماح فقيل لي تعلم من هؤلاء؟ فقلت: لا.

فقيل لي هؤلاء أهل المكان الذي أخذ متاعك فيه، فدخلت وأنا خائف، فأجلست بين يديه واستدعى مشايخهم وقال لي: كم تكون قيمة بضاعتك؟ فقلت كذا وكذا، فأمر لي بالمبلغ وقال لي: قم أنت أخذت حقك وبقي حقي وحق الله عز وجل، وأمر بإخراج المشايخ وقتل الجميع وقال: هذه طريق شوك أزيلها عن المسلمين، فأقبلوا يبكون ويتضرعون ويقولون يؤاخذ سيدنا العلماء بالمفسدين، فقال: يخرج كل طائفة منكم بمن فيها من المفسدين، فصار الرجل يخرج ولده وأخاه وابن عمه إلى أن اجتمع نحو 500 فأمر أهلها أن يتولوا قتلهم ففعلوا ذلك.

المظالم في عهد الدولة السعدية

ولم تزل المظالم الكبرى تعرض على السلطان في عهد الدولة السعدية التي وإن كانت انتدبت للمظالم واليا ينظر فيها بين أيديها وجعلته في عدد الوزراء وكانت تنتقيه من أكابر الفقهاء كالعلامة ابي عمران بن مخلوف الكنسوسي في أيام الغالب بالله أبي محمد عبد الله بن محمد الشيخ وكالفقيه أبي الحسن سليمان الشامي، لم تلق الحبل على الغارب بل كان منصورها يعقد لذلك مجلسا يؤلفه من القضاة والفقهاء ويرأسه بنفسه ويصدر الحكم في ذلك باسمه، فقد ذكر سيدي العربي الفاسي أن المنصور لما قدم فاس سنة 1011 ورفع أهلها الشكوى بالمظالم ألف مجلسا بحضرته من قضاة وفقهاء فاس ومراكش، كان من جملتهم قاضي فاس أب نعيم وقاضي شفشاون أبي عرضون، والإمام القصار وابن عمران، فصدرت من هذا المجلس أحكاما باسمه، من ذلك مسألة الحكم بقبول قول أهل المقتول فيما ضاع له، فثبت هذا الحكم وصار معتمدا عند أهل القضاء والفتوى وجرى به عملهم.

ومن مآثر المنصور في العدل، غلظته على جبابرة العمال المشهورين بالحيف وارتكاب الجور وموالاة تكلمه عليهم وشمولهم بأنواع العذاب والإنتقام وقذفهم في السجون والمطابق مقرنين في الأصفاد ومصادرتهم وغلق أبواب الشفاعة دونهم حتى يهلكوا تحت العذاب.

وكان عهد لرجل يقال له داوود بن علي بالنظر في أمور الرعية فأساء السيطرة واطلق على الرعايا من عماله النار الموقودة واستباحهم بالنهب.

ولما قبل للحضرة تعلق بأذياله أصحاب الظلامات واجتمع منهم عالم كبير فغصت بهم أبواب قصور الخلافة وأقنية دور الملك. فامر المنصور بإحضار العمال، فجيء بهم كافة وزج بهم في السجن، فنظمت في أعناقهم السلاسل والأغلال، ثم جلس لسماع شكايات الرعايا وأذن لهم في رفع ظلاماتهم، فكان يؤتى بالعمال للفصل مقرنين في الأصفاد حتى تقضي منهم حقوق الرعايا بمجلس الحكم فيعودوا إلى محبسهم.

المبحث الثاني: المظالم في عهد الدولة العلوية

وفي عهد الدولة الشريفة الحاضرة فإنه يتولى أمر المظالم وزير يعرف بوزير الشكايات، يرفع رقاعها للسلطان ليوقع جنابه عليها بالحكم، وصفة الرفع أنه يكتب: نعم سيدي أعزك الله أن فلانا الفلاني حضر مشتكيا لأن العامل الفلاني أو الشخص الفلاني تعدى عليه وأخذ له كذا وكذا ولسيدنا واسع النظر…الخ، فيكتب السلطان بخط يده على الرقعة: "يفعل كذا وكذا"، فحينئذ يقوم الوزير بتنفيذ أمر السلطان.

ويقول الأستاذ المرحوم علال الفاسي في هذا الصدد في كتابه دفاعا عن الشريعة: "لقد حافظ المغرب طيلة عهوده الإسلامية على إقليمية القضاء وإقليمية التشريع، فكانت المحكمة الشرعية هي القضاء الوحيد الذي يرجع إليه المتقاضون من أي جنس كانوا ولم تكن مصلحة المظالم أو بنيقة الشكايات محكمة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما كانت الأولى مرجعا لتطبيق الأحكام التي يقضي بها القضاة، على من لا تنالهم الأحكام أو يصعب على القاضي تنفيذها عليهم، فكان والي المظالم يقوم بتطبيقها عليهم واجبارهم على العمل بمقتضاها وكذلك الشكايات كانت مرجعا للناس يبثون فيها شكواهم مما يظنون أنه حيف وقع عليهم فيصدر الأمر بتنفيذ الحكم أو إعادة النظر فيه إلى القاضي…"

وقد كان هذا هو الشأن لدى جل الملوك إلا بعض الاستثناءات. فمولاي امحمد شغلته أمور تهدئة المغرب ومقاومة الفتن إلى أن توفي بعين الصفافي المعركة بينه وبين اخيه مولاي رشيد، الذي تسلم الأمور وقام بنفسه لرفع المظالم في جلسات اسبوعية خصصها لهذا الغرض، وهو اول ملك جلس أمام القاضي مع خصم له، وكان هذا عنوانا لانصياع الملوك العلويين للشريعة الاسلامية.

أما مولاي اسماعيل فقد اهتم اهتماما خاصا بأمر المظالم وعين لها وزيره السيد اليحمدي بعدما عين الفقيه عبد الله الروسي وليا للمظالم والجباية بفاس وكان يخصص أوقاتا ينظر فيها في الأشغال الإدارية المتعلقة بشؤون الرعية ومهام الدولة، والتوقيع عليها بما يراه مناسبا في أجوبتها، ويأمر بتسليمها للوزير بواسطة أحد الطواشية ليضمنها بالدفتر الخاص بها، ويسجل التواقيع السلطانية، وتدون بسجل الصادر، فإن كانت مما يستدعي امضاء السلطان وجهت له، فما وافق من الأجوبة امضاء بطابعه، وما لم يوافق عليه أمر بإعادته، بعد  ذلك توجه المكاتب الصادرة جميعها لقائد المشور ليوزعها على أربابها، فإذا اقتضى نظر السلطان رفض مطلب من المطالب وقع عليه بحرف الصاد وذلك في الاصطلاح المخزني اشارة للرمز (صار بالبال) وربما وقع احيانا بلفظ سنرى أو سننظر.

وهكذا كان العمل يجري في المكاتب الصادرة من البلاط الملكي وواردة عليه، اما من جاء بنفسه وشافه بمطلوبه فإن الوزير يتلقى منه ذلك ويأمر بتسجيله فيقدم للسلطان ضمن (جريدة المطالب الشفاهية) في أوقات الاستقبال فيوقع على تلك المطالب بما اقتضاه نظره.

النظر فيما يعرضه الوزراء

إذا فرغ السلطان من مراجعة أشغال اليوم صادرة وواردة، خرج لغرفة الاستقبال واستوى على سرير ملكه، فيتوجه أحد البوابين إلى مكاتب الوزراء يعلمهم بجلوس السلطان على العرش ليهيء كل ما لديه من الأشغال المراد تقديمها للسلطان. فيقدم قائد المشور تقييدا بالوافدين على الأعتاب الشريفة من جميع أنحاء الإيالة، ويقدم المكاتيب الواردة باسم السلطان غير مفضوضة (كان الأمر يسير على هذا المنوال إلى ان توعكت صحة المولى الحسن الأول ففوض لحاجبه أحمد بن موسى فتح تلك الكتب، وعهد إلى كاتبين تسجيل مضمون كل كتاب بمحلوله)، ويأتي ذلك التسجيل على هذا النحو: نعم سيدي أعزك الله، فلان أخبر بكذا وكذا، ويطلب كيت كيت. ثم بعد ذلك تقدم المكاتيب للسلطان ليوقع عليها بما يراه وربما قرأ الكتاب كله ولم يكتف بما قيد في مضمنه، اما اهتماما بمرسل الكتاب أو اختبار للمضمون، ثم يسجل الحاجب في دفتر خاص كل تلك المضمنات بتوقيعها لتبقى محفوظة. بعد هذا يستدعي الملك كل وزير على حدة بدءا بالصدر الأعظم ليحاورهم في القضايا المعروضة على كل حسب اختصاصاته ثم يستقبل الوافدين على حضرته الشريفة ويستمع لتظلماتهم، وقد ذكر (دومون طانمكسانح) في كتابه (اسماعيل الأكبر): ''كان أي المولى اسماعيل، يتخذ الوسائل للاستطلاع على اخبار الرعية من متعدد الطرق حتى لا يغيب عنه شيء من احوالها ليعلم ما يأخذ وما يذر في تدبيرها''.

وقد خصص المولى اسماعيل يومي الثلاثاء والأحد لسماع مظالم الناس، إذ تعرض على حضرته قائمة بأسماء المشتكين واحسابهم وأنسابهم والمكان الحالين به، واسم العامل المتولى عليهم، ولهذا الشأن نظام خاص حيث ان المشتكين يصطفون بباب القصر بنظام على مقتضى ترتيبهم بالقائمة المذكورة، ثم يقدمون للمثول بين يديه، فينصت لتظلماتهم في وقار حتى لا يرتبك المشتكي في إبداء حجته، وبعد التأني والروية يقضي له.

أمثلة من الشكايات المرفوعة للمولى اسماعيل

  •  احمد لله، تقييد شكاية عشية الثلاثاء عاش صفر عام 1311: قدور بن عبد الله تقييد الهواري المساسي يشتكي بأن الذمي بوطبول سجن ابن عمه مدة 13 شهرا من غير موجب ولم يكن له عليه ما جل ولا ما قل، وإنما الذمي المذكور يسال لوالد المسجون مالا، فترك الذي ذمته عامرة، وقبض على ولده مع انه مفترق مع والده زيادة على عشرة أعوام كما بموجب بيده وكل واحد من الوالد والولد مستقل بنفسه ولا مخالطة بينهما ولا ضمانة وبقي عرضة للضياع هذه المدة – يطلب إعمال الشرع.
  •  ابن الطويل المركاني تشكى أنه له على الأشهب ابن الرياحي الفضلي والعربي بن العربي اللقماني، وسعيد ابن عويط المعيطني، قمحا وشعيرا وفولا من ايالة ابن عودة وله على الفقيه سي أحمد بن الفقيه الخصيبي الزوايدي ومحمد بن الهاشمي الزوايدي قمح وشعير وفول وغير ذلك على يد مخالطهم عسيلة الهيمتي– من ايالة القائد محمد بن قاسم السلهامي- ويستمي المخالط المذكور أن لحسن بن ناصر وأخاه التباع واخاه ادريس والتهامي ابن عمهم ومحمد الخنزة وابن علال من درقاوة تعرضوا للمشتكي قرب الجمعة ببني حسن وأخذوا له حمارين محملين فولا من ايالة القائد محمد القداري.
  •  قاسم عوينة السفياني تشكى أن محمدا ولد الحاج أحمد من اولاد سيدي قاسم أكله في خمسة – يطلب الأمر لخليفة السلهامي بفصاله معهم عليه بقبيلة أيت عطا بأخماسها، وأيت يفلمان بما في ذلك أيت مرغاد وأيت عيسى وأيت حديدو وأيت سغروشن ومرموشة وأيت ازدك وأيت علي وابراهيم وأيت يحيى وأيت عياش بأنزكمير وأيت يوسي وغيرها.

أما  قبائل أيت امالو بما فيهم زيان وأيت اسحاق وزمور وبني مطير وجروان واشقيرن وأيت احند وأيت شخمان وبني مكيلد وقبائل الدير، ايت السرى كايت وراو وأيت أم البخت وأيت عطا نومالو بووزغت، وأيت تاكلفت وأيت ونركي وزاوية احنصال وأيت مصاض وأيت بوزيد وأزيلال وأيت محند ونتيفة وأيت عبدي وغيرها.

ففي هذه القبائل اصبحت الجماعة تعين عن طريق السلطة المحلية وقد أقرت فرنسا هذه القبائل على أعرافها وصارت الجماعات يعقد لها الضباط الأهليون جلسة في الأسبوع لفض النزاعات والبت في الأحوال الشخصية والعقارات، والعقود، والقواد كالدية في القتل والجرح والاعتداءات على الحرام. اما باقي المظالم فيبت فيها المراقب أو الضابط الأهلي بواسطة القواد وأعوانهم كالأشياخ والمقدمين.

والملاحظ أن هذه القبائل على أعرافها تنقسم إلى قسمين: قسم يورث المرأة وقسم يحرمها كقبائل أيت أمالو مثلا فإن المرأة عندهم لا ترث حتى سنة 1947 أي إلى حين فشل مفهوم الظهير البربري سياسيا ولذلك أسباب ستذكر في مذكرة لاحقة.

ورغم المكائد الفرنسية فإن هؤلاء كانوا يقومون بشعائر الدينية كإقامة فرائض الاسلام الخمس حتى انهم يتبارون في الحج بالولائم والأفراح وغيرها، وهذا يثبت تشبتهم بدينهم وكانوا يستفتون العلماء في بعض المراكز المهمة في أمور دينهم، ولا يكتفون بهذا ففي امر النكاح مثلا فإنهم يعقدون لها في المساجد (الدواوير) الحالات حيث تجري الصيغة الشرعية ويقدر الصداق ويتم الزواج أما المسائل الإدارية فترجع إلى الجماعة كما ذكرنا سابقا.

المظالم بعد الحماية زمن المغفور له محمد الخامس ثم الملك الحسن الثاني رحمه الله

وهكذا كان أمر المظالم تحت الحماية، أما بعدها فقد ظل أمرها منسيا لفترة وجيزة إذ وزعت الأشغال وصارت القضايا المرفوعة للاعتاب الشريفة ترد إلى المختصين لها من الوزارات والمحاكم العليا وهم يجرونها على مقتضى التوجيهات السلطانية إلى أن تم انشاء مكتب الأبحاث والإرشادات التابع للقصر الملكي العامر في عهد المغفور له الملك محمد الخامس كبديل عن وزارة الشكايات وذلك سنة 1956 حيث عين رحمه الله على رأس هذا المكتب المرحوم الفقيه السيد عبد السلام الفاسي الذي باشر الأمور إلى سنة 1965 حيث عين الملك الحسن الثاني رحمه الله الرئيس هاشم بن الحسن العلوي وخصه بكلمة سامية قال فيها:

(لقد كلفناك بمهام هذا المكتب الذي هو عبارة عن مرآة عما يقع من المظالم على المواطنين وليست معالجة الشكايات هب الغاية من عملكم فحسب، بل هناك أشياء قد تستنتجونها بحكم اتصالاتكم بالمواطنين وبما لكم من طول التجربة ولخدمتكم مع والدنا المقدس أعانكم الله).

خاتمة

هكذا تعرفنا على أن ديوان المظالم هو امتداد لمؤسسة ظهرت في عهد الاسلام ثم تطورت عبر عدة مراحل، إلى غاية الدولة العلوية حيث عرفت مجموعة من التطورات فأصبحت تسمى مؤسسة الوسيط وتم تحديث هيكلتها وبعض اختصاصاتها لتساير متطلبات العصر.


[1]  د محمد عبد الحميد أبو زيد، مبادئ الإدارة العامة، دار وهدان للطباعة والنشر، 1975، الطبعة الثانية، ص 201.

[2]  هاشم العلوي، مرجع سابق، ص 29 والاحكام السلطانية للماوردي، ص 98.

[3]  شرح صحيح البخاري، الجزء 1 ص 382.

[4]    المقدمة، ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر، الجزء الأول، ص 222.

 





وضع القراءة :
حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-